رئيس الجمهورية مترئساً الاحتفال بمئوية محكمة التمييز في قصر العدل
رئيس الجمهورية مترئساً الاحتفال بمئوية محكمة التمييز في قصر العدل: استقلاليّة السلطة الدستورية ليست منّة من حاكم بل هي حقّ للقضاة..
الرئيس عون لقضاة محكمة التمييز: اجتهدوا كي تحققوا العدالة وتعطوا المثل الصالح لأترابكم من القضاة الذين سيصبحون يوماً في مواقعكم ودرجاتكم
أكد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أن استقلاليّة السلطة الدستورية، “ليست منّة من حاكم بل هي حقّ للقضاة إن أردنا عدالة منزّهة عن الاستتباع السياسي أو الارتهان المصلحي أو الاعتبار الطوائفي أو المذهبي أو المناطقي”.
ودعا قضاة محكمة التمييز خلال ترؤسه الاحتفال بمئوية محكمة التمييز الذي جرى قبل ظهر اليوم في قصر العدل، إلى الاجتهاد كي يحققوا العدالة ويعطوا المثل الصالح لأترابهم من القضاة الذين سيصبحون يوماً في مواقعهم ودرجاتهم، حتى إن اجتمعوا في هيئة عامة للتصدّي لخطأ جسيم في الأحكام، شخصت الأنظار إليهم وإلى قراراتهم تستلهم منها العدل الصافي.
واعتبر الرئيس عون أن على كلّ متظلّم متقاض أن ينال محاكمة سريعة وليس متسرّعة، “ذلك أنّ كلّ عدالة متأخّرة هي نقيض العدالة لا بل هي من قبيل الامتناع عن إحقاق الحقّ”ن مشدداً على أن العدل في النهاية “طمأنينة للنفوس والأوطان، كثرته تقي من الانزلاق إلى الفوضى والظلم والعنف”.
وفي ما يلي نص كلمة الرئيس عون:
“أيها الحضور الكرام،
ملفت أن تكون مقومات ومرتكزات الدولة في لبنان قد وضعت قبل أن يتم إعلان الدولة بحد ذاتها، ومحكمة التمييز اللبنانيّة واحدة منها، وهي التي سبقت نشأتها إعلان “لبنان الكبير” بعام ونيّف، وفي ذلك رسالة صريحة أن إقامة العدالة هي أساس الحكم وأساس الدولة.
وهذا ليس غريباً عن بيروت أمّ الشرائع التي أنشئت فيها أوّل مدرسة حقوق في العالم في عهد الامبراطوريّة الرومانية.
تعود تسميّة «محكمة التمييز» إلى 20 نيسان من العام 1920 حيث كانت مرتبطة بالمندوبيّة الفرنسيّة، إلا أنّ بدايتها ترافقت ووصول الفرنسيين إلى لبنان في العام 1918 بعد حصار جبل لبنان من مأموري السلطنة العثمانيّة المتهاوية، والمجاعة التي قضت على عدد كبير من سكّانه، حيث قُيّض للفرنسيين الإمساك بزمام الأمور وإعلان الإدارة المؤقتة وإلغاء القوانين والقرارات العثمانيّة، وصولاً إلى تاريخ 17 حزيران 1919 حين صدر عن المفوّض السامي الفرنسي القرار 452 المُسمّى «قانون المحكمة العليا» وتحدّد مركزها في بيروت وشمل اختصاصها القضايا المدنيّة والجزائيّة.
أيها الحضور الكرام،
ما يهمّنا اليوم ليس العودة إلى مراحل ما قبل أو بعد 1919 وليس استعراض ما تمّ على مدى مائة عام في عالم القضاء والمحاكم، بل خلاصة هذا المخاض الطويل، هي أنّ ثمة أسساً في العدالة، عدالة الأرض، يجب أن تتوافر في كلّ محكمة وكلّ محاكمة، نوجزها كالآتي:
– على كلّ متظلّم أن يجد قاضيه وأن يكون لشكواه ومظلوميته مرجع أخير يوصله إلى العدالة.
– على كلّ متظلّم متقاض أن يلقى محاكمة عادلة.
– على كلّ متظلّم متقاض أن يتمتع بضمانات، هي أصلاً في صلب دستورنا، وفي المادة 20 منه تحديداً التي لم ينل منها أيّ تعديل منذ وضع الدستور، ضمانات متوازية مع ضمانات القضاة وذات مرتبة واحدة، ومنها قرينة البراءة وحقّ الدفاع والوجاهيّة واستئناف الأحكام وطلب نقضها عند توافر شروط النقض وعدم إرهاق المتقاضين بتكاليف باهظة ينفرون منها عن عجز وليس عن اقتناع.
– على كلّ متظلّم متقاض أن ينال محاكمة سريعة وليس متسرّعة، ذلك أنّ كلّ عدالة متأخّرة هي نقيض العدالة لا بل هي من قبيل الامتناع عن إحقاق الحقّ.
– تعرفون الحقّ والحقّ يحرركم، من التوراة إلى إنجيل يوحنا، ومن القرآن الكريم إلى السيرة الشريفة والنهج، الحقّ والحقيقة توأمان لا ينفصلان.
ويبقى أنّ القاضي يجب أيضاً ان يتحصّن بضمانات، ماديّة ومعنويّة، إلا أنّ أهمها تبقى الاستقلاليّة، استقلاليّة السلطة الدستوريّة واستقلاليّة القاضي الفرد عند اختلائه وضميره وقلمه وعلمه منصرفاً إلى الحكم. إنّ هذه الاستقلاليّة، على ما قلت لكم عند افتتاح السنة القضائيّة في بداية عهدي، ليست منّة من حاكم بل هي حقّ لكم إن أردنا عدالة منزّهة عن الاستتباع السياسي أو الارتهان المصلحي أو الاعتبار الطوائفي أو المذهبي أو المناطقي، والحقّ يُستحقّ بالممارسة وليس بالاستعطاف والوقوف على أبواب أهل السياسة والسلطة، كما الموقع الذي يشغله صاحب الاختصاص والكفاءة والجدارة والنزاهة الفكريّة والماديّة والاستحقاق، وهي معايير ذكرها دستورنا في أكثر من فصل من فصوله.
إن السلطة الدستوريّة المستقلّة مسؤوليّة قبل أن تكون عطيّة، فاستحقوها ومارسوها بالعمل الدؤوب، فتفرضون ذواتكم على من يتنكّر لكم ولسلطتكم.
كلمتي لكم في مناسبة يوبيل محكمتكم المئوي يا قضاة التمييز، وقد أولاكم القانون توحيد الاجتهاد، إن اجتهدوا كي تحققوا العدالة وتعطوا المثل الصالح لأترابكم من القضاة الذين سيصبحون يوماً في مواقعكم ودرجاتكم، حتى إن اجتمعتم في هيئة عامة للتصدّي لخطأ جسيم في الأحكام، شخصت الأنظار إليكم وإلى قراراتكم تستلهم منها العدل الصافي.
فالعدل في النهاية طمأنينة للنفوس والأوطان، كثرته تقي من الانزلاق إلى الفوضى والظلم والعنف.
وعلى ما يقول فيلسوف لبنان الكبير جبران خليل جبران:
“إن لم يجر بينكم التبادل بالحب والعدل، شرهت فيكم نفوس وجاعت أخرى”
عشتم، عاش قضاء لبنان وعاش لبنان”.